كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم نقول: وقد يكون الحاصل في نفس العابد المتوجّه أمرا متركّبا من موادّ عقليّة ومدركات حسّيّة، ومن مسموعات ومظنونات، فالإدراك- على اختلاف ضروبه المعنويّة والحسّيّة- تابع للمدرك، فتوجّه كلّ من شأنه ما ذكر ليس إلّا إلى صور منشآت في الأذهان شخصتها نفوس المتوجّهين من موادّ ظنونها وآرائها، أو ممّا انتقل إليها من مشخّصات أذهان من حكى لها، أو نقل إليها أو هي منتزعة من صفات وآثار وآيات قرّر المنتزع إضافتها وثبوتها لموصوف بها ومنسوب إليه جميعها، وأنّ ذلك كمال في زعمه، بمعنى أنّ من هو بهذه المثابة فجدير أن يعبد.
هذا، مع اعتراف كلّ منصف هذا شأنه أنّه حال حكمه بمثل هذا الحكم وتصوّره هو في نفسه ناقص، وتصوّره وغير ذلك من صفاته تابع له لأنّ الصفة تتبع الموصوف كما قلنا في الإدراك.
فالحاصل في ذهنه من صورة الكمال- الذي يجب أن يكون حاصلا للمعبود- صورة ناقصة، والمنسوب إليه ذلك الكمال- الثابت نقصه بما ذكرنا وغيره- مجهول عنده، فأين المطابقة المشاهدة بصحّة التصوّر الذي يتبعه الحكم التصديقي؟ وقد ثبت أنّ حاصل ما أشرنا إليه كونه إنشاء في حال نقصه صورة ناقصة في الكمال، متحصّلة من أجزاء وهميّة وخياليّة، أو استجلاءات نظريّة ضعيفة غير مطابقة لما قصد تصوّره، ثم جعلها قبلة توجّهه وتوقّع منها السعادة والمغفرة وقضاء الحوائج، أليس اللّه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِباد أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} ألست تعلم أنّ الذي أنشأته في ذهنك منفعل مثلك، بل أنزل درجة منك، من حيث إنّك منشئه.
فيا من هذا شأنه، باللّه عليك راجع نفسك، وانظر: هل يمكن أن يكون لمثل هذا الحال والاعتقاد ثمرة، أو يرضى بها عاقل ذو همة عالية في معتقده، أو عباداته وتوجّهه في صلاة، أو غيرها من العبادات؟ وأين المقصود من قوله تعالى: {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} الآية؟ فأين المسابقة؟ وأين التوجّه الصحيح المصدّق قول المتوجّه إلى الحقّ في زعمه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}! وهو كاذب؟
فإنّه لم يخاطب بهذا إلّا الصورة الذهنيّة التي خلقها بعقله السخيف، أو وهمه وخياله ورأيه الضعيف. وأنّى ترجى ثمرة عبادة أو صلاة هذا أساسها؟ وأين «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» وذكره سبحانه الفاتحة وأقسامها ك «مجّدني عبدي» و«فوّض إليّ» و«هذه بيني وبين عبدي» و«هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل»؟ فبالله عليك، هذه الصورة المنتشية في ذهنك تقول شيئا من هذا، أو تقدر على شيء، هيهات. المنشئون لتلك الصور {لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} فما الظنّ ببعض ما انتشأ فيهم على النحو المذكور.
واعلم، أنّ قوله صلّى اللّه عليه وآله في حديث الفاتحة والصلاة «يقبل من الصلاة ربعها ونصفها» وتعديده الأقسام حتى انتهى إلى التسع، ثم قال: «وآخر تؤخذ صلاته كالثوب الخلق، فيضرب بها وجهه»، إشارة إلى ما ذكرنا من تفاوت حظوظ المتعبّدين، وقلّة جدوى الكثير منهم، وحرمان آخرين بالكلّيّة، وليس ذلك إلّا لما ذكرنا من تأسيس الأمر على غير أصل صحيح، ونعوذ باللّه من ذلك ومثله.
ولنعد الآن إلى بيان الوجهة التي هي قبلة قلوب المتوجّهين وأرواحهم وعقولهم ونفوسهم وطباعهم، من حيث أحكام الصفات والأحوال الغالبة عليهم، بحكم هذه الأمور المذكورة فإنّ وجهة كلّ متوجّه هدف سهم إشارته حال توجّهه.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فنقول في إيضاح سرّ ذلك: لأصل شجرة الحضرة الإلهيّة فروع يسري في كلّ فرع منها من سرّ الألوهيّة، بالسراية الذاتيّة من الذات المقدّسة قسط بمقدار ما يحتمله ذلك الفرع من أصله ألا وإنّ تلك الفروع هي الأسماء الإلهيّة، ألا وإنّ تلك السراية الذاتيّة الأصليّة عبارة عن سريان التجلّي الذاتي في مراتب أسمائه، بحسب ما تقتضيه مرتبة كلّ اسم منها، ولذلك قلنا غير مرّة: إنّ كلّ اسم من وجه عين المسمّى، ومن وجه غيره، وفصّلنا في ذلك ما يغني عن إعادة الخوض فيه والإطناب.
ولمّا كان كلّ اسم من أسماء الحقّ سببا لظهور صنف مّا من العالم، كان قبلة له، فاسم ظهرت عنه الأرواح، وآخر ظهرت عنه الصور البسيطة بالنسبة، وآخر ظهرت عنه الطبائع والمركّبات، وكلّ واحد من المولّدات أيضا ظهر باسم مخصوص عيّنته مرتبة الظاهر به، بل حال المظهر واستعداده الذاتي غير المجعول، ثم صار بعد قبلة له في توجّهه وعبادته لا يعرف الحقّ إلّا من تلك الحيثيّة ولا يستند إليه إلّا من تلك الحضرة، وحظّه من مطلق صورة الحضرة بمقدار نسبة ذلك الاسم من الأمر الجامع لمراتب الأسماء كلّها والصفات.
وأمّا الإنسان فلمّا توقّف ظهور صورته على توجّه الحقّ بالكلّيّة إليه حال إيجاده، وباليدين، كما أخبر سبحانه ولإحدى يديه الغيب، وللأخرى الشهادة، وعن الواحدة ظهرت الأرواح القدسيّة، وعن الأخرى ظهرت الطبيعة والأجسام والصور، ولهذا كان الإنسان جامعا لعلم الأسماء كلّها ومنصبغا بحكم حضراتها أجمع، ما اختصّ منها بالصور وكلّ ما يوصف بالظهور، وما اختصّ منها بكلّ ما بطن من الأرواح وغيرها، ممّا يوصف بالغيب والخفاء، فلم يتقيّد بمقام يحصره حصر الملائكة، كما أشارت بقولها: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقام مَعْلُوم. ولا حصر الأجسام الطبيعيّة، وبذا وردت الإخبارات الإلهيّة بلسان الشرائع وغيرها فتوجّه الإنسان الحقيقي- إن تحرّر من رقّ المقامات، وارتقى وخلص بالاعتدال الكمالي الوسطي عن أحكام جذبات الأطراف والانحرافات- إلى حضرة الهويّة التي لها أحديّة جمع الجمع، المنعوتة بالظهور والبطون، والأوّليّة والآخريّة والجمع والتفصيل، وقد مرّ للمتأمّل في الحديث عنها ما قدّر ذكره وبيانه، وسنزيد ذلك تفصيلا،- إن شاء اللّه تعالى- وإن مال- أعني الإنسان- عن الوسط المشار إليه إلى طرف لمناسبة جاذبة قاهرة، وغلب عليه حكم بعض الأسماء والمراتب فانحرف، استقرّ في دائرة ذلك الاسم الغالب، وارتبط به وانتسب إليه، وعبد الحقّ من حيث مرتبته، واعتمد عليه، وصار ذلك الاسم منتهى مرماه وغاية مبتغاه ووجهه من حيث حاله ومقامه، حتى يتعدّاه.
ولمّا كانت مراتب الأسماء مرتبطا بعضها بالبعض، وأحكامها مشتبكة متداخلة بالتوافق والتباين الموضحين حكمي الإبرام والنقض، صارت أحوال الخلق- من حيث هم تحت حكم هذه المراتب، ومحلّ آثارها- متفاوتة مختلفة لأنّ اجتماعات تلك الأحكام الأسمائيّة تقع في المراتب الوجوديّة على ضروب، فتحصل بينهما كيفيّات معنويّة، مقرونة بتقلابلات روحية، فيحدث في البين ما يشبه المزاج في كونه متحصّلا عن تفاعل كيفيّات ناشئة عن امتزاج واقع بين الطبائع المختلفة وقواها. ونظيرها هناك التقابل والتباين اللذين بين الأسماء، فتظهر الغلبة لبعض المراتب الوجوديّة والأسمائيّة، كغلبة بعض الطبائع هنا على البعض، حتى يقال: هذا مزاج صفراوي ودموي وغير ذلك. ويقال: هناك زيد عبد العزيز، وآخر عبد الظاهر، وآخر عبد الباطن، وآخر عبد الجامع، وآدم في السماء الأولى، وعيسى في الثانية، وإبراهيم في السابعة ونحو ذلك.
ثم إنّه يحصل بين تلك الأمزجة المعنويّة والروحانيّة وبين هذه الأمزجة الطبيعيّة اجتماع آخر، تظهر له أحكام مختلفة تنحصر في ثلاثة أقسام: قسم يختصّ بمن غلبت عليه أحكام روحانيّته على أحكام طبيعته، حتى صارت قواه الطبيعيّة تابعة لقواه الروحانيّة وكالمستهلكة فيها، وقسم يختصّ بجمهور الخلق وهو عكس ما ذكرنا فإنّ قواهم وصفاتهم الروحانيّة مستهلكة تحت حكم قوى طبائعهم، وقسم ثالث يختصّ بالكمّل ومن شاء اللّه من الأفراد، وآيتهم {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} فافهم فهذا مقام لا يحتمل البسط.
ثم نقول: فيظهر لما قلنا بحسب الغلبة المذكورة حكم ما يقتضيه وصف الأمر الغالب من المراتب والأسماء والطبائع، وإن لم يخل المحلّ عن حكم الجميع، لكن إنّما ينتسب لمن ظهرت له السلطنة عليه، فمنزّه، ومشبّه، وجامع بين التنزيه والتشبيه، ومشرك، وموحّد، وغير ذلك.
فتفرّعت لما ذكرنا الآراء المتباينة، والأحوال المختلفة، والمنازل المتفاوتة، والمقاصد والتوجّهات، فمن عرف مراتب الوجود وحقائق الأسماء عرف سرّ العقائد والشرائع والأديان والآراء على اختلاف ضروبها وكيفيّة تركيبها وانتشائها، وسنلمع لك بيسير من هذا الباب، فاتّخذه أنموذجا ومفتاحا، تعرف سرّ ما أشرنا إليه- إن شاء اللّه-
وصل:
في قبلة العقول والنفوس والإنسان اعلم، أنّ قبلة العقول مطلقا أحديّة معنى الأمر، لكن من حيث استنادها إليه، لا من حيث هو.
وقبلة النفوس التجلّي الكثيبيّ، وله آخر درجات الظهور، وأوّل درجات باطن الظاهر.
وللمشبّهة أحد وجهي هذه الدرجة، وما اتّصل بها من التجلّي البرزخيّ المشار إليه، ويختصّ بإنسانيّة روح الأمر. وقبلة أهل السنّة والجماعة ومن شاء اللّه من أهل الشرائع الماضية روح الأمر ومرتبته معا، وله تنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} وتشبيه «اعبد اللّه كأنّك تراه». وأعلى مراتبه ظاهر العماء. وقبلة العارفين وجود مطلق الصورة الربّانيّة، وظاهر الحقّ. وقبلة المحقّقين وجود الحقّ، ومرتبته الجامعة بين الوجود والمراتب من غير تفرقة وتعديد.
وقبلة الراسخين مرتبة الحقّ من حيث عدم مغايرتها له وانضياف صورته سبحانه- التي حذى آدم عليها- إليها، ولها حضرة أحديّة الجمع، فافهم.
وأمّا قبلة الإنسان- الحقيقي، الذي هو العبد الأخلص الأكمل- فقد مرّ ذكرها آنفا عند الكلام في الوجهة والتوجّه، لكنّني تركت من أسراره ما يجلّ وصفه، ويحرم كشفه، مع أنّي قد ألمعت بطرف منه في آخر ما ذكرته في مجازاة العبد المخلص، وقبل ذلك في سرّ الحضور مع الحقّ، على الوجه الأتمّ، وبيّنت منه نكتا نفيسة في مواضع متفرّقة من هذا الكتاب، يتفطّن لها اللبيب- إن شاء اللّه.
وصل:
العبادة الذاتيّة، والصفاتيّة:
لتعلم بعد استحضارك ما مرّ أنّ للإنسان عبادتين: عبادة ذاتيّة مطلقة، وعبادة صفاتيّة مقيّدة.
فالذاتيّة: قبول شيئيّته الثابتة المتميّزة في علم الحقّ أزلا للوجود الأوّل من موجده، وإجابته لندائه، وامتثاله للأمر التكويني المتعيّن بكن وهذه العبادة مستمرّة الحكم من حال القبول الأوّل والإجابة والنداء المشار إليه لا إلى أمد متناه، فإنّه من حيث عينه ومن حيث كلّ حال من أحوالها مفتقر إلى الموجد دائما، لانتهاء مدّة الوجود المقبول في النفس الثاني من زمان تعيّنه وظهوره، والحقّ ممدّه دائما بالوجود المطلق المتعيّن والمتخصّص بقبول الإنسان من الأسماء وغيره من الممدودين به، والحركات والأفعال التي لا تعمّل للإنسان فيها والأنفاس أيضا من لوازم هذا القبول ومن جملة صور هذه العبادة.
والعبادة المقيّدة الصفاتيّة تختصّ بكلّ ما يظهر عن ذات العابد من حيث حكم صفاته أو خواصه أو لوازمه من حال أو زمان معيّن ذي بداية ونهاية وغيرهما.
وتختصّ بهذه العبادة أيضا عبوديّة الأسباب الكونيّة، وتفاوت الخلق فيها، بحسب غلبة أحكام الصفات على حكم الذات وحكم ما يناسبها- أعني الصفات- من الأمور المؤثّرة في الإنسان الذي هو منفعل لها، ومنجذب بالقهر- الذي هو الاستعباد في الحقيقة- إليها، فإنّك عبد ما انفعلت له وظهر عليك سلطانه، ولهذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة». والضابط في هذا المعنى: أنّ التأثير مطلقا- حيث كان- لسرّ الربوبيّة، والانفعال مطلقا لمعنى العبوديّة، وقد أسلفنا أنّ الكامل لا يؤثّر أصلا، إنّما هو مرآة تامّة صحيحة الهيئة، يظهر كلّ منطبع فيها بحسب ما هو عليه في نفسه، فاذكر، تعرف سرّ ما سبقت الإشارة إليه.
وهاتان العبادتان هما في مقابلة رحمة الوجوب، ورحمة الامتنان المذكورتين من قبل، وكما أنّ في رحمة الوجوب رائحة التكليف، ورحمة الامتنان مطلقة لا إيجاب فيها ولا التزام، كذلك العبادة الذاتيّة التي لا تكليف فيها، وليست من نتائج الأمر، وإنّما متعلّق الأمر والتكليف العبادة المقيّدة الصفاتيّة، المشار إليها رأفة من اللّه ورحمة، واحتياطا وتحذيرا من ميل الإنسان بجاذب إحدى صفاته إليها، فيحصل بذلك الميل الذاتي لتلك الصفة الغلبة على غيرها من الصفات، بحيث تستهلك أحكام باقي الصفات التي بظهور سلطنتها يحصل الاستكمال المتوقّف على حفظ الصحّة والاعتدال الروحاني والمعنوي، المختصّ بالمزاجين المتحصّلين من الاجتماعات الواقعة بين الأرواح وقواها الباطنة، وبين الصفات وغيرها من المعاني المجرّدة، وقد سبق التنبيه على ذلك في تفسير اسم الربّ منذ قريب، فاذكر.
العمل والعبادة:
ثم نقول: اعلم، أنّ العمل جسد وروحه العبادة، فالعمل يطلب الثواب من جنّة وغيرها، لكن لا مطلقا، بل من حيث يستند إلى أصل وحدانيّ المرتبة، شامل الحكم. والعبادة تطلب المعبود. والعبادات من أحوال الروح، والأعمال تختصّ بالبدن، أو بما تنضاف إلى الروح باعتبار تعلّقه بالبدن وتلبّسه بأحكامه الطبيعيّة، وظهوره بحسب أحكام أصباغها، وحضور العبد بصفة الذلّ بين يدي عزّ ربّه في كلّ فعله من طاعة وغيرها من أحوال العارفين الذين يصدرون الأعمال مصحوبة بالحياة الرفيعة، التي أوجبها علمهم وحضورهم مع مشهودهم، فيعلو العمل إلى منتهى مرقاة من المرتبة التي تستند إليها معرفتهم وشهودهم وتوجّههم، كما نبّهت على ذلك في تفسير {مالك يوم الدين} عند الكلام على مراتب العمّال ومجازاتهم، فاكتف واستبصر.